الصفحـــــــة الرئيـســـــــــة

الاثنين، 20 يونيو 2011

تكست -العدد 13- علوق نص د. أسعد الاسدي




علوق

*أسعد الاسدي





تعودت أن تجلس قبالة زوجها ، شاغلة كرسيها الركني أمام طاولة الطعام البيضاء المستطيلة ، تتسع أمامها نافذة عريضة مطلّة على حديقة مربعة تتوسط مساحة البيت . عندما سافر زوجها يوما وشغلت كرسيه على الغداء ، لم تجد سبيلا الى فهم ما تأكل . وحين تلقت مرّة دعوة زوجها الى أحد مطاعم المدينة ، قصدت موضعا قصيا في ركن الصالة ، يمتد في مرمى نظراتها فضاء فسيح الى الجدار الزجاجي المعتم في واجهة المطعم ، وقد إختارت أن تدلف الى ذلك الركن القصي في كل عوداتهما القليلة الآتية . وعندما تزور بيت أقاربها وتمضي ليلتها عندهم أحيانا ، تصحو مبكرة عند الفجر وهي تستغرب أن تجد نفسها في بيت غريب وليس في بيتها كما تأمل . البعض منا عندما يغير مكان طعامه يفتقد طعامه ، وعندما يغير مكان نومه يفتقد نومه ، وعندما يغير بعض آخر مكان جلوسه يفتقد هدوءه .





نعلق في المكان فلا نغادره ، وإذ نغادره نغادر الكثير من العلاقة مع الفعل الذي يسعه ذلك المكان ، فلا نعود نقوى على الفعل بذات القدرة والرغبة والوضوح . نختار المكان بمحض إرادتنا أو يختارنا هو و نعلق فيه ، وإذ نغادره نغادر إختيارنا لمكان لم يعد محايدا فيصعب علينا أن نغادره . المكان في سعة هذا العالم هو مكانك الذي تنتمي اليه ، وهو مرصدك الذي يأتيك بصورة العالم والأشياء ، وإذ تغيره تتغير صورة العالم من حولك ويتغير العالم ، ويقع التشويش في معلوماتك البصرية ،






ويحل التيه في المعرفة ، وكيف للوعي والحس أن يقعا عندما لا يكون لك مرصد ترقب منه سواك ، فيكون هو الثابت الذي يبصر المتحولات من حوله ، في صورة يتيحها المرصد لعالم يدوّن كتاباته وتجلياته في مديات تلك الصورة . وهكذا
تبنى حياتنا اليومية في عديد الأمكنة ، أحدها يؤدي الى الآخر ، مكان بسعة ما وزاوية رصد ما يؤدي الى مكان آخر بسعة أخرى وزاوية رصد مختلفة . أمكنة بمعطيات ولقى ذهنية وحسية ، هي التي تجتمع لتؤدي صورة العالم . وقد يبدو المكان المجرد فكرة مؤسسة ومنظمة للإدراك ، غير إن المهم في الأمر هو الأمكنة موضوع التلقي والمعاشرة والعلوق ، تلك التي تقدم للعقل معلوماته الحسية والذهنية وهو يدوّن تقرير الوعي بالوجود .


نعلق في المكان ويعلق فينا ، يحمل سكان القرية قريتهم حين يحلّون في المدينة ، ويحمل سكان المدينة مدينتهم حين يسكنون القرية . في الحي الذي أسكن ، شيخ وعجوز يسكنان رصيف الشارع ، يجمعان بعض الأحجار وقطعا من الخشب الى بعضها وفوق بعضها ، ليسندا وسادة خشبية تسعهما ، يغطيانها بفراش سميك رث ، ويجلسان أو يرقدان فوقها ، إن في الصباح وإن في المساء خارج سور البيت ، حيث أصادف أحيانا حضور من يزورهما من أولادهما وصغارهم ، يجلسون قربهما على حافة الوسادة الخشبية وقماشتها الثقيلة البالية . شيخ وعجوز ، يبدو إنهما يرثان أمكنة القرية التي علقا فيها وعلقت في أجسادهم ، يأتيان بها الى المدينة ويسكنانها أرصفة الشوارع ، هما ورثة بيوت القرية التي تسكن فضاء" مفتوحا متصلا بالسماء ، يرقب المارة من الناس والحيوانات ، لا يألفان أن يركنا الى بيوت المدينة ، حيث الأسوار التي تعزلها عن الرصيف والشارع ، ولأن الصيف عاد من جديد ، تراهما وقد عادا الى جلستهما تلك ، يمضيان النهار وهما يلوذان بظلال صغيرة تصنعها مظلة متهرئة من مشبكات القصب الكالح ، ويأتي المساء فيقضيان نومتهما في العراء ملتصقين ، وعندما يغفوان وتمر الى جوارهما العجلات ، تهدّىء من سرعتها وتخفت أضواؤها ، لاتريد إيقاظهما ، إن لنومهما سطوة تربك الحركة في الشارع وهو يمر لصقهما هادئا مضطربا خجلا ، الشارع سكنهما وليس معبرا للآخرين كما تدعو الى ذلك مخططات المدينة . ونحن أيضا ورثة حكايات أمكنة القرية ، نسكنها في بيتنا الجديد وسط المدينة ، إذ نرتقي السلّم في ليالي الصيف الى سطح ترطب برذاذ الماء منذ العصر كي ننام هناك ، تصل عيوننا أضواء النجوم ، وتلك هي سليقة الريف ، النوم على سطوح المنازل ، وكيف لمن أمضى طفولته في القرية أن يقر الى غرف بيوت المدينة ويغفو تحت سقوفها القريبة الدافئة .

بودي لو أعلق في كل شيء ، كل مكان ، أدخل الغرفة كي أرقب جدرانها وألوانها وأشياءها ، وأمضي وقتا طويلا فيها ، أدخلها ذاكرتي وعزلتي ، وأعيد تجليتها في هدوء يكشف عنها و تكشف عنه وهي تتكشف فيه . أدخل الكتاب ، وأقرأه كلمة بعد كلمة ، أعيد قراءته وهو يعيد حضوره في كل قراءة جديدة ، أقرأ الجملة وأعيد قراءتها ، أتلوها ، أنصت لكلماتها وهي تدخل أذني ، والكلمة أتلفظها من جديد ، حرفا بعد حرف ، أعلق فيها ، في الكلمة ، في الجملة ، في الكتاب ، في الغرفة ، أعلق في مدينتي ، في العالم . أي علاقة عميقة وحازمة ونهائية هي العلوق ، تلك الكلمة التي يبهرني إكتشافها وهي تقود خطاي الى الأشياء والمدينة والعالم . العلوق بقاء مديد في الأمكنة ، وزمان يساكنك العالم في صمت يعبر الساعات والأيام ، علوق ينبع من علوق ، وعلوق يؤدي الى علوق ، ينقذنا من زحمة الأشياء ، من تواليها ، ومن تسارع العالم ، يعيد للأشياء ثباتها ، وللوجوه ملامحها ، فلا تغيب في تعدد تجلياتها ، خارج العلوق يهدر العالم تحولاته التائهة دونما ضفاف .




في رواية ( غرفة مثالية لرجل مريض ) للروائية اليابانية ( يوكو اوغاوا ) تعلق بطلة الرواية في غرفة في مشفى حيث يرقد أخوها منتظرا نهايته بصمت ، إنها تقول ( هنا لا أشعر بوطأة الوقت اذا لم أجد ما أفعله ، ففي وسعي البقاء لساعات من دون أن أفعل شيئا ، إذ يكفي أن أراقب أخي مستمتعة بنظافة غرفته التي لا تضاهى لكي أشعر بالرضى ) . كانت تتلمس نظافة السطوح والأشياء ، تبصر بريقها وصفاء ألوانها ، وهي تركن الى فضاء صغير مألوف ، يكفيها عن عالم مضطرب خارج الغرفة . وقد يعلق البعض في أمكنة ملتبسة تقود خطواته الى الحيرة ، مثل بطل رواية ( المقبرة ) للروائي العراقي ( محمد شاكر السبع ) ، وهو يقصد مدينة النجف لشراء قطعة أرض في المقبرة ، تكون ملاذا مأمولا لجسده البارد ، غير إنه يعلق هناك فلا يقوى على مغادرة المدينة ، كما لو كان ينتظر رقدته الأخيرة . ليست الغرف كلها على أية حال تدعونا لنعلق فيها ، ولا حتى المدن كلها .

صغارا كنا نصنع بيوتا من وسائد ، نرتبها حولنا ، تصطف جوار بعضها وتتعالى ، تاركة فتحة صغيرة نعبرها الى الداخل ، حيث نجلس هناك في فضاء صغير يحاذينا ، تدور حوله الوسائد ، ونسميه بيتا ، نصنعه ونعلق فيه وسط فضاء الغرفة الواسع العريض ، الذي نحل فيه ونشعر إنه كبير وأكثر من حاجتنا الى مانسميه بيتا ، صغارا كنا ومانفعله نتاج شعور يرقى في القيمة الى اللزوم ، ينبىء بما نحلم به وما نحن في حاجة اليه ، وهو ينجلي في الزمان القادم عن مؤسسات من الدور والأبنية والسكنى .

*اكاديمي عراقي

البصرة 28 / 4 / 2011

ارتباط

العــــودة للصفحـــــة الرئيســـة – العــــــدد 13

العــــودة للصفحـــــة الرئيســـة – تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق